تخطى إلى المحتوى

أسرة متميزة إذن موهبة متميزة

الشارقة
وراء كل موهبة أسرة متميزة

Thursday 3rd of November 2024 02الشارقة09 PM
د. صالح هويدي

ليس من هدف هذه الإطلالة التناول الأكاديمي لمفهوم الموهبة والموهوب الذي لا يخلو من تباين في رؤى التربويين، واختلاف في مواقف الباحثين، وخلط في ما بينه وبين مفاهيم أخرى؛ متاخمة له متداخلة معه، كالتميز والتفوق والذكاء بل وما ينتج عن بعضها أحياناً، من إبداع وابتكار..إلخ. وهو أمر مرده ما تتضمنه الموهبة نفسها من مكونات متعددة ومتداخلة، وإن كنا نستطيع على نحو عام الركون إلى عدد من المحكات الخاصة في تشخيص الموهبة، كمحك الذكاء الذي أعادت الدراسات الحديثة الاعتبار إليه بعد أن كان موضع أخذ ورد، ومحك التحصيل الدراسي، ومحك التفكير الابتكاري، ومحك الأداء أو الإنتاج.

لكننا نستطيع مع ذلك الركون إلى جوهر مفهوم الموهبة الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين الباحثين والمتمحور حول تلك القدرة أو الاستعداد أو السمات الخاصة التي تمكن الفرد من تحقيق إنجاز عال في مهارة أو مجال أو أداء ما.

دور البيئة في ولادة الموهبة:

إن ما يهمنا هنا هو تسليط بقعة ضوء على تلك المواهب العربية الوليد التي تدب على أرض مؤسساتنا التربوية، من دون أن تكون ثمة أساليب ناجعة للكشف عنها، أو آليات منهجية لرعايتها، أو وسائل علمية لتنمية تلك المواهب وتطويرها والأخذ بيدها كي تتبلور وتعطي ثمارها الناضجة في أرض ملائمة وممهدة، ولتأتي النتائج ممثلة في ضياع هذه المناهج في الأغلب الأعم، وإن استمر شيء منها بجهود شخصية ومقاومة فذة، فإن الاغتراب عن الوطن والهجرة إلى بلدان العالم المتقدم هي النتيجة الطبيعية لما تنتهي إليه مسيرته، بعد رحلة من اليأس والإهمال المحبط.

لا ريب في أنه لا يكفي لمجتمع ما أن يكشف عن وجود مواهب فيه، ما لم ينجح في تهيئة البيئة القادرة على احتضان تلك المواهب ورعايتها وتنميتها. ويقف على رأس الحواضن الاجتماعية: الأسرة؛ الرحم الأول والمهاد الأساس، والمؤسسات الاجتماعية التي تمثل المدرسة المظهر الأبرز والأهم في تفتح الموهبة وصقلها وتطويرها.

إن مما يؤسف له أن آلافاً من المواهب سرعان ما تجهض ولا يتاح لها أن تكمل نموها، في وطننا العربي، في وقت نجح فيه الغرب، في جعل بيئته ومؤسساتها مفقساً دائماً للمواهب الواعدة.

وإذا كانت الأسرة أول من يمكن أن يُحمّل مسؤولية أمانة مواهب أبنائنا، فإن هذا الدور لا يمكن له أن يتحقق من دون توافر شرط الوعي والثقافة الذي يتيح للأسرة تلمس مظاهر الموهبة واكتشافها أولاً، والنجاح في توفير البيئة الملائمة لتفتحها وعدم إهمالها ثانياً، والسعي إلى البحث عن سبل نموها وتبلورها ثالثاً.

ولا ريب فإن الملاحظة الواعية تظل أنجع وسيلة للكشف عن الامتياز الواضح في أداء الموهبة، فإن نجحت الأسرة في اكتشاف موهبة الابن أو الابنة، فإن الخطوة التالية ينبغي أن تتمثل في عدم الإهمال والمسارعة في العناية بها وتطويرها. فإن امتلاك الابن لخط جميل مثلاً، يستدعي من الأسرة تشجيعه على الاستمرار في ممارسة هوايته ودعمها له وتسهيل انخراطه في معاهد الخط؛ لدراسة أصوله. ومن يكشف عن موهبة في الرسم، فإن إشراكه في المعارض والمسابقات، وإلحاقه بالمؤسسات والمعاهد التي تعنى بتنمية هذه الموهبة يظل المهمة الأساسية اللاحقة.

ومما لا شك فيه فإن شيوع أجواء التفاهم الأسري وحرية التعبير عن الرأي وممارسة النقد والنقد الذاتي، والبعد عن ممارسة أساليب قمع الرأي وعدم التفرقة في ما بين الأبناء، كل ذلك من شأنه أن يوفر بيئة صحية لانتعاش الموهبة وتبلورها ونموها. ويبقى للمدرسة الدور الأكثر تقنيناً وتنظيماً وتأثيراً. فإلى جانب ملاحظة المعلم للموهبة، ثمة أساليب لقياس الموهبة عقب اكتشافها في واحد من اختبارات الذكاء المعروفة، فمن المعروف أن نسبة ذكاء الموهوبين تتراوح من 135 أو 140- 170، وأنهم يشكلون ما نسبته 1-3% من الأفراد العاديين.

تأتي بعد هذه المرحلة مسؤولية الإدارة المدرسية في العناية بالموهبة وتنميتها والإشراف عليها إشرافاً مبرمجاً وتهيئة الفرصة لزجها في ممارسات تدريبية موجهة، فضلاً عن إشراكها في المسابقات والمعارض.

وأخيراً فإذا كان ظهور الموهبة حدثاً سعيداً واستثنائياً فإن ما هو أكثر أهمية ودلالة على التميز قيام ذوي الموهوب بالتنبه إلى موهبة ابنهم والسعي إلى تفتقها والعناية برعايتها وتنميتها، وقبل ذلك كله: الإيمان بموهبة الابن أو الابنة، إيماناً مبنياً على الثقة التي لا تتزعزع. ولنا في أم (آينشتين) المثل الذي ينبغي أن يظل ماثلاً أمام أعيننا، فبعد أن ضاق أساتذته به وحكموا عليه بالغباء وبعدم القدرة على الفهم والتواصل، كانت أمه شديدة الثقة بقدراته العقلية ومواهبه الفائقة، مستمرة في شحنه بالثقة، والوقوف إلى جانبه، مادة إياه بالعون والأمل حتى أنجز أبحاثه وقدم كشوفه العلمية المهمة التي غير بعضها وجه الحياة، بعد أن دفع به التعليم التقليدي إلى خارج أسواره.

آفة آفاتنا:

إن آفة الآفات في ما يحدث في مجتمعاتنا العربية من قصور ونكوص وتقصير في المجال التربوي أو المجالات الأخرى المتصلة به، التي تعاني من غياب الرؤية في بعدها الشمولي أو في خططها قريبة المدى، إنما يعود إلى ثقافة التخلف التي نعيشها وتطغى على سائر مرافقنا وإدارتنا لمؤسساتها العلمية والثقافية والتربوية والاقتصادية. ولا ريب أن التخلص من هذه الحال يقتضي توافر عوامل عدة، على رأسها إخلاص النية والعزم على تحقيق الأهداف البراقة، وعدم الوقوف بها عند حدود الشعارات الرنانة، يليها الصياغة العلمية والواقعية للأهداف في ضوء الإمكانات البشرية والاقتصادية والمادية، تليهما النجاح في إيجاد آليات سليمة وواقعية، تراعي الأولويات.

ولا ريب في أن الأسرة الممثلة للحاضنة الأولى لأبنائنا الموهوبين ستمثل الأولوية التي ينبغي توجيه العناية لها والاهتمام بها. فماذا مدت المؤسسات السياسية والتربوية والثقافية من جسور مع هذه الحاضنة التي تلعب دوراً خطيراً في قدح زناد الموهبة وتطويرها وتنميتها؟ وماذا بإمكان الأسر العربية الفقيرة في مواردها، المتواضعة في وعيها وثقافتها أن تفعله أو تصل إليه من وسائل للأخذ بأيدي تلك الكائنات البشرية التي ستأخذ على عاتقها النهوض بمستقبل الوطن؟

وماذا فعلت المؤسسة التعليمية والتربوية تحديداً من وسائل وبرامج وآليات لتغيير الصورة النمطية للمعلم المتعب المرهق المهمش، للارتقاء به إلى مستوى الوعي بأهمية الموهبة التي بين يديه، وبخطورتها ودورها المستقبلي، ووصول وعيه بإهمال ما يتكشف عنها أو قمعه إلى مرتبة ارتكاب جرم كبير بحقها أولاً، وحق الوطن والأمة ومستقبلها الواعد؟

ليست هذه المداخلة إذن سوى وقفة على تخوم موضوع خطير وكبير، انعقدت من أجله الندوات والتأمت في سبيله المؤتمرات وكتبت لأجله البحوث والدراسات وخصصت له الأموال في مجتمعاتنا العربية، من دون أن نحقق فيه نجاحاً يمكن أن ينير ضوءاً في نهاية نفقنا العربي الذي يزداد تعصباً وانغلاقاً ومضياً نحو ثقافة السحر والوصولية والكراهية والإقصاء يوماً بعد يوم.

………………………….

د. صالح هويدي

· ناقد وباحث في الشأن التربوي.

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.