تخطى إلى المحتوى

وقفات مع الإعجاز القصصي في القرآن الكريم

  • بواسطة
بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات مع الإعجاز القصصي في القرآن الكريم
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم ويهديهم إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده سيدنا محمد النبي الأمين، بعثه الله رحمة للعالمين وأيَّده بقرآنه المعجزة وكلامه المبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد :
تعد القصة القرآنية أحد الأساليب التي اعتمدها القرآن الكريم في تبليغ الرسالة السماوية، وأحد الأساليب التي حملها القرآن ليحاجَّ بها الناس، وليقطعهم عن الجدل مثلما جاءت أساليب الاستدلال والمناظرة والوعد والوعيد والتهديد، إلاَّ أنَّ القصة تتميَّز عن غيرها من أنماط التعبير بقالبها الفني حيث تكون النفوس أكثر انجذاباً إليه، والأحاسيس أكثر تعلُّقاً به.
فالقصص القرآني نهجٌ فريدٌ في موضوعه وفي أسلوب أدائه وفي مقاصده وغاياته، أما
عن موضوعه فهو نسيج خالص من الصدق المطلق والحقيقة الكاملة لا يختلط به وهمٌ أو
خيال، أما عن أسلوبه فهو أسلوبٌ بديعٌ مزج بين الإعجاز والروعة والصدق في الأداء مع
نقل دخائل النفس البشرية حتى إنَّه ليجعلنا نعايش الحدث وكأننا شهدنا تلك الوقائع
والأحداث.
هذا هو الإعجاز القصصي في القرآن الكريم نقل إلينا قطعاً من التاريخ الحق بلا زيفٍ ولا تزويقٍ أو تنميق، ثم إن علينا ألاَّ ننخدع بلفظة: (قصة) في موضوع القصة القرآنية فنأخذها بمعايير النقد الأدبي للقصة البشرية التي بنيت على الخيال وخرج بها أصحابها على طبائع الأشياء فلوَّنوها بألوانٍ وأصباغٍ غير ألوانها وأصباغها، فهيهات بين ما صاغه الله علينا من أحسن القصص وما صاغه فنَّانٌ إنسان من خلق الله جلَّ وعلا.
وأما عن مقاصد القصص القرآني وغاياته فهي الدعوة إلى الحق والهداية إلى مواقع
الخير وإقامة وجه الإنسانية على مسالك الحق والخير، فليس فيه استثارة للعواطف
المريضة، ولا استرضاء للميول الزائفة، ولا اتجاهٌ إلى الأهواء المنحرفة في الإنسان، وإنما هو
حربٌ على هذه العواطف المريضة والميول الزائفة والأهواء المنحرفة يلقاها بحزمٍ وينزل
أصحابها منازل البوار: ( ).
فللقصة القرآنية دور عظيم في الارتقاء بالمجتمع البشري، وانتشاله من مستنقعات الانحطاط والضلال لبناء الإنسان على الفطرة السليمة، وصقل تلك الشخصية على أُسسٍ من الأخلاق الفاضلة والقيم الكريمة.
والقصة بعد ذلك قد وضعت الأصول الصحيحة التي يجب على الأدباء والمفكرين اتِّباعها لكتابة القصة المفيدة بدروسها وعبرها ضمن حدود العقل البشري.
وفيما يلي وقفات مع القصة القرآنية المعجزة ودورها في رسم معالم الصراط المستقيم :

 سبقُ القصص القرآني للقصة الحديثة في الفن والأداء ، مع تميُّزه في الوظيفة العقدية التي يحدِّدها سياق الأداء القصصي في القص القرآني.
 هناك برهانٌ ساطعٌ على إعجاز القصة القرآنية وهو تنوُّع أنماطها وأشكالها من حيث الحجم والطول، فالقرآن الكريم قد يذكر القصة موزَّعةً على سور متعدِّدة، وقد يذكرها في سورة واحدة كما في سورة يوسف، ولو حاول البشر – أيّاً كانت قدرتهم الأدبية – أن يصنعوا ذلك لوجدت أمارات الضعف والوهن بادية في أعمالهم وأساليبهم.
 من أوجه إعجاز القصص القرآني أنَّ هذه القصص معارف عجيبة، وأخبار غريبة من أُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن يعرف شيئاً من قصص المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجملة ما وقع منذ بدء الخليقة من آدم  وبنيه، ونوح  ومكذِّبيه، وهود  وقومه، وثمود  وملئه، وقصص موسى  وفرعون، وأصحاب القرية، والحواريين، وأصحاب الجنة، وأصحاب الأخدود، وغيرهم، قال تعالى:
( )، ويقول في سورة أخرى:
( ).
 ما يُسمَّى تكراراً في قصص القرآن هو في الحقيقة أعلى مراتب البلاغة، فالقصة المكرَّرة ترد في كلِّ موضعٍ بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل القارئ أو السامع من تكرارها، بل تتجدَّد في نفسه معانٍ لا تظهر في مواضع أخرى، فضلاً عن أنَّ في ذلك إعجازاً فريداً، فإيراد المعنى الواحد في صور متعدِّدة مع عجز العرب عن الإتيان بسورة منها أبلغ في التحدِّي والإعجاز، هذا الإعجاز الذي تتجلَّى فيه روعة الكلمة وجلالها وجمال النظم القرآني في أنه ينقل المشاهد بجميع أبعادها وبأمانة وصدق ولكن على دفعات ولقطات، وليس في معرض واحد، وكل ذلك في فلك الإعجاز القرآني الذي لا ينبغي لأحدٍ غير الله .
 القصص القرآني أحسن القصص، وجدير به أن يكون أحسن القصص لأنَّه حقٌّ لا يتطرَّق إليه الريب، فليس تخيُّلاتٍ ولا خرافاتٍ، ولأنه موعظة وذكرى لقومٍ يؤمنون فقد قلب أوضاع العرب، وأحدث فيهم ثورة على كل الضلالات والانحرافات، فإعجاز القصص القرآني يظهر من خلال نقل الحقائق والوقائع والأحداث نقلاً صادقاً مصفَّى دون تتنميق أو تزويقٍ.
 من وجوه الإعجاز القصصي في القرآن الكريم بعث العناصر التي شاركت في الحدث القصصي بعثاً أمسك بكل القوى العاملة في حياة هذا الحدث ووضع كلاًّ منها بالموضع المناسب وبالقدر المناسب.
 ساهمت القصة القرآنية في إثراء علم السياسة، وذلك بتقريرها للخطوط العريضة اللازمة لإقامة حكمٍ عادلٍ توفِّر فيه السعادة للمحكومين، فضلاً عن إفادة القصة الإنسانية في كثيرٍ من جوانب المعرفة كعلم الاجتماع وعلم النفس.
 يزخر القرآن الكريم بكثيرٍ من المعجزات، والخوارق التي تظهر بين أحداث القصة فتحدث دويّاً هائلاً وتحدث زلزلة عاتية، وهذا العنصر يدخل دخولاً مفاجئاً لا يتوقَّعه أحدٌ من أطرف الصراع المحتوم، ومن أمثلة ذلك ما كان بين موسى  وفرعون، حين خرج موسى  بقومه هرباً من فرعون وملئه، ثم كان أن تبعهم فرعون بجنوده حتى لحقوا بهم، وهنا لا يوجد سوى طريقين: إما أن تستسلم الجماعة الضعيفة القليلة للقوة الغالبة الباطشة، وإما أن تشترك في معركةٍ غير متكافئة يستأصل فيها فرعون الباطش من بقي من بني إسرائيل، ثم يأتي أمر الله لموسى  بأن يضرب البحر بعصاه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، ويتَّجه موسى  إلى طريقه المرسوم متحقِّقاً من النصر الموعود وانطلق على بركة الله، وأغرق الله فرعونَ وجنده ويُختم الصراع بين الحق والباطل، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم، تأمَّل قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وغيرها من ألوان هذا الفن المعجز الخالد.
 في القصص القرآني تربةٌ خصبةٌ تساعد المربين على النجاح في مهمتهم، وتمدُّهم بزادٍ تهذيبي من سيرة النبيين وأخبار الماضين وسنة الله في حياة المجتمعات وأحوال الأمم، فقصص الخيِّرين في القصص القرآني تفتح القلوب على الخير، والعقول على المعرفة، والروح على حب الله، والحياة على إنسانية السماء، وهي جزء من ثقافتنا التربوية وقراءاتها قراءة متدبرة تسهم في صياغة شخصيات شبابنا وفتياتنا لتسلك في حياتها مسلك يوسف  وإسماعيل  وآسية ومريم وموسى  وابنتي شعيب.
 استعمل القرآن الكريم الخبر والنبأ بمعنى التحدُّث عن الماضي وقد فرَّق بينهما في المجال الذي استعمل فيه جرياً على ما قام عليه نظمه من دقَّةٍ وإحكامٍ وإعجازٍ، فاستعمل النبأ والأنباء في الإخبار عن الأحداث التي مضى الزمن بعيداً بها، في حين استعمل الخبر والأخبار في الكشف عن الوقائع القريبة العهد بالوقوع، أو التي ما تزال مشاهدها قائمة ماثلة للعيان.
 في القصص القرآني نماذج للدعاة إلى الله في مواجهة طغيان الكفر، فالداعية بأسلوبه الدعوي الناجح، ومنطقه الإيماني المؤثِّر يهزم الباطل والضلال والكفر، والله مع عباده وجنوده بالنصر والتمكين والكلمة الصادقة الواثقة الجريئة أقوى من الباطل، ولن يصمد الباطل في أية مواجهة حوارية فكرية جدلية.
 القصص القرآني – وإن يكن سماويَّ المطلع – هو بشريُّ الصورة إنسانيُّ العواطف، يتحدَّث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة، يقرؤه الناس ويسمعونه فكأنما يقرؤون أطواء نفوسهم، ويسمعون حسَّ ضمائرهم، ومن هنا يعيشون فيه، ويحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض يصيبها الغيث فيقع منها مواقع مختلفة بين وديانٍ وسهولٍ وجبالٍ وقيعانٍ وأحراشٍ وسهوبٍ.
 في القصص القرآني يبرز وجه المرأة عنصراً أصيلاً من عناصر هذا القصص حيث تأخذ المرأة مكانها إنساناً وامرأة معاً، ولهذا فإننا نشهدها في كل نشاطٍ إنساني تحتمله إنسانيتها وأنوثتها في مجال الحدث القصصي، فهي إنسان عاقل رشيد كامرأة فرعون التي آثرت الإيمان بعد ما استبان لها من دعوى موسى  على سلطان فرعون، ثم إنَّ المرأة في قصص القرآن أنثى يستبدُّ بها الحب ويغلبها الهوى فتميل معه وهي في هذه السبيل تندفع بكلِّ عاطفتها وتستخدم كل ما أُوتيت من دهاءٍ ومكرٍ وقد تمثَّل هذا النمط في امرأة العزيز التي استبدَّ بها حب يوسف  وغلب على حيائها وطغى على عاطفتها. ثم إنَّ المرأة في قصص القرآن ملكة ذات دولة وسلطان لها في قومها المكان الذي اكتسبته بعقلها وحكمتها وتدبيرها قبل أن تكتسبه بملكها وسلطانها، يتمثَّل ذلك في ملكة سبأ وما كان بينها وبين سليمان، إذاً فللمرأة مكانٌ في قصص القرآن وهي عنصرٌ أصيلٌ فيه وليس مصطنعاً لأداء دور عاطفي مبتذل.
 يتبع القصص القرآني أسلوباً فريداً لم تعرفه كتب الأدب على ألوانها، فهو ليس قصة محضة، وهو ليس حواراً مسرحيّاً صرفاً، وهو ليس مقالة، وإنَّما هو مزيجٌ من ألوانٍ وأنواعٍ أدبيَّةٍ، يختار منها ما يناسب مقتضى الحال، وهذا أعلى مراتب الإبداع والإعجاز، فالفن الإسلامي فن طليق يتلاءم مع كلِّ حالةٍ، ويعبِّر عن كلِّ موضوعٍ، لأنَّه يتضمَّن تلاؤماً بين الشكل والمضمون، والانسجام والتناسق هما عماد الجمال الفني، وبهذا نرى أنَّ القرآن الكريم قد ضرب لنا مثالاً فريداً من الفن جديراً بالاقتداء.
 ينبغي أن يكون القصص والفن كله جادّاً في عرضه للحياة البشرية، ولا نعني بالجدِّيَّة أن يصبح العمل القصصي نصائح وقواعد خلقية وإرشادات، وإنما نقصد جدِّيَّة الحياة وعظم الدور الذي يقوم به الإنسان في هذه الحياة، ولا نقصد كذلك إلغاء الفنون الهزلية الكوميدية من الحساب فالملهاة يمكن أن تكون جادَّةً حين تعرض اختلالات البشرية، وتسخر منها لتقدِّم النموذج الأمثل الذي يجب أن يُحتذى في الرفعة والاستقامة والتوازن.
 على الأدباء والكتاب التوجُّه إلى القرآن الكريم ليستمدُّوا منه وحيهم الفني كي يبرزوا في فنونهم، ولو أنَّهم فعلوا لامتلكوا الريادة في هذا المجال، ولتجاوزوا الآداب الغربية التي تأثَّروا بها وحاكوها في نتاجاتهم بدلاً من أن يؤثِّروا هم فيها.
 قصص القرآن الكريم بما تقدِّمه من تصوُّراتٍ ومعانٍ جليلةٍ ، وبما تحتويه من أدلَّةٍ وبراهين إنَّما يهدف إلى نشر الخير للإنسانية جمعاء، فثمرته مما تحيا به القلوب، وتظهر به النفوس، فإنَّ في جديته وحرصه على استصلاح الإنسان ما جعله أحسن القصص وأسماه وأروعه منذ الأزل وحتى يومنا الحاضر، وسيظل كذلك إلى قيام الساعة.

والله من وراء القصد

شكرا اخي وجعله الله في ميزان حسناتك
موضوع رائع وجميل وممتع ..
بارك الله فيك أستاذنا الفاضل .
موضوع الإعجاز القصصي في القرآن ، موضوع رائع وشائق ومهم
جُزِيت خيرا ولك كل الشكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.